مَعْلَم آخر عفا عليه الزمن وطالته يد الدمار والتخريب، دير النصراني . يقع الدير إلى الشرق من قرية ملح، على تلة باسقة تشاهَد من جميع القرى المحيطة بها، ويستمتع الناظر من أعلاها بمشهد بانورامي قل نظيره .
قبل زيارة المكان نعود للتاريخ لنقتف أثر هذا المعلم الهام . فماذا كُتب عنه ؟
لقد درست بعثة جامعة برنستون الأميركية المكان في مطلع القرن العشرين ووضعت مخططا دقيقا له ووصفته بالتفصيل: ومما جاء في كتاب رئيس البعثة هوارد كروسبي بتلر "Ancient Architecture in Syria" العمارة القديمة في سوريا :
"على السفوح الجنوبية الشرقية لجبل حوران، هناك تلة مخروطية تبدو كموقع حراسة يطل على الصحراء المغطاة بالحجارة السوداء ينتصب على هذه التلة خرائب دير مسيحي يجعلها علامة بارزة على مسافة عدة أميال في المنطقة المحيطة بها . تغطي الخرائب نصف مساحة قمة التلة، وتتألف معظمها من أبنية ليست متقنة البناء تعود إلى الفترة المسيحية، بعضها جيد وبعضها سيء، لكن معظمها يمكن تمييزه بسهولة . هناك برج مندمج ببناء الدير في جميع جهاته عدا الشمالية منها، وقد بني من أحجار غير مقصبة من البازلت . وحده مدخل هذا البرج بني من حجارة مقصبة، غير أن جدرانه سميكة بشكل غير عادي، وليس له فتحات سوى المدخل . هناك كتابة على حنت ذلك الباب تذكر إقامة مدخل لمبنى . إن البرج، وبدون أدنى شك، هو أقدم من مجمع أبنية الدير الذي بني ملاصقا لهذا البرج، والذي يعتقد أنه كان برج مراقبة قديم لكشف تحركات بدو الصحراء .
إن مخطط الدير غير منتظم، وإن بدا أقرب إلى الشكل المربع . مدخل الدير الوحيد من جهة الشرق، وهو باب صغير يعلوه نقش و يفضي إلى ردهة صغيرة مربعة الشكل تقريبا ( 3 x3.6 ) م يحيطها مداخل في جدرانها الأربعة تؤدي إلى أماكن مختلفة في الدير . المدخل المقابل للمدخل الرئيسي يفضي إلى فناء مفتوح على شكل مربع تقريبا ( 14 x 14.6 ) م . في الجانب الشمالي من الفناء هناك مصلى، وفي الغرب جناح إقامة الكهنة، وفي الجنوب جدار متين بني لجعل الدير بناء مغلقا ، أما في الشرق فهناك إسطبل مستطيل الشكل والردهة المذكورة سابقا .
المصلى
يتألف المصلى من صحن مستطيل ينتصب سقفه على قنطرتين تقسمه إلى ثلاثة أقسام أبعاد كل منها ( 7.35 x2.95 و 2.55 و 2.6 ) م . في الجهة الشرقية منه توجد غرفة مفتوحة عليه تقابل المذبح في الكنيسة ومحيط بها من الجانبين غرفتان مستطيلتان للكهنة الذين يقيمون القداس . كما يحيط بصحن المصلى غرفتان من كل جانب مستطيلتا الشكل طول إحداها يعادل ضعف طول الأخرى بعرض مترين في الجنوب و حوالي مترين و نصف في الشمال . يفضي أحد البابين في الجهة الغربية من المصلى إلى البرج القديم بينما يفتح الثاني إلى غرفة مستطيلة كبيرة تشغل الجانب الجنوبي من البرج و تمتد إلى ما وراء جداره الغربي أبعادها ( 13.95 x5.55 ) م، و منها مدخل في الجدار الشمالي إلى غرفة أصغر ، يشغل جدارها الشرقي جزءا من الجدار الغربي للبرج .
جناح إقامة الكهنة
يتألف مسكن الكهنة من غرفة متوسطة كبيرة أبعادها ( 6.9 9.4 ) ينتصب سقفها على قنطرة مركزية، يحيط بها غرفتان مستطيلتان يعلو كل واحدة غرفة أخرى، لكن الطابقين يوازيان في الارتفاع سقف الغرفة المركزية، أبعاد الغرفة الجنوبية ( 9.4 2. 6 ) م، أما الشمالية فأبعادها ( 9.4 2. 6 ) م .
لقد لحق بأبنية الدير خراب كبير، لكن أهميته تكمن في أنه مثال على الأديرة البعيدة المشادة في الحقبة المسيحية المبكرة والتي تشكل موقعا كان يوما ما برجا عسكريا، ربما بني على أنقاض مزار أو معبد قديم . " (1)
وإن لم يحدد بتلر التاريخ الدقيق لإنشاء الدير فقد حددها الدكتور قتيبة الشهابي في "معجم المواقع الأثرية في سوريا, ص 136" أن بناءه يعود لعام 479 ميلادي . (2)
و عندما زاره الأب جوزيف ماسكل بعد حوالي ثلاثين عاما من زيارة بتلر وبعثة برنستون كان على ما يبدو بأفضل حال مما عليه الآن وقد جاء في كتابه " جبل الدروز ، ص 108 " : "لقد كان بالتأكيد في العهد البيزنطي منشأة عسكرية و مكانا للصلاة . كان لهذا الدير برجه مثل دير شقا ، و ما تزال قاعدته قائمة . أمام باب المدخل عتبة ضخمة ملقاة على الأرض بطول أكثر من مترين وعليها كتابة يونانية ( ليبارك هذا الدير إله القديس جورجيوس ) لقد وضع الدير على اسم هذا الشهيد ." (3)
عندما وصلنا هناك وجدنا الوصف مختلفا تماما؛ فالبناء القديم مهدم وحل مكانه بناء جديد غيّر معالمه.لم يبق من الدير سوى أطلال بالكاد تدل على شكله العام . مدخل الدير من الشرق لا زال في مكانه وقد أصبح درجا صغيرا للوصول إلى المستوى الجديد الذي بني عليه مزار حديث للخضر . الجدار الجنوبي لا زال منه حوالي المتر وزاويتيه الغربية والشرقية بقي منهما ارتفاع متر ونصف تقريبا . الفناء واضح تماما وجدار الإسطبل كذلك، لكنهما غرقا تحت أنقاض الجدران المهدمة . منزل الكهنة مهدم وتظهر جدران الغرف المجاورة التي كانت بطابقين . أما البرج فقد تكومت حجارته في وسطه لارتفاع أكثر من أربعة أمتار أو خمسة، ويمكن تمييزه بسهولة من خلال الجدار الغربي الذي نال حظا أقل من التخريب ويظهر منه حوالي ثلاثة أمتار، كما هو الحال في الجدار الشمالي للبرج . أما المصلى فقد بني عليه المزار الجديد الذي لم نتمكن من دخوله لأنه مقفل والقيم عليه غير موجود . الردهة والغرف الملحقة بالمصلى من الشرق ردمت بالأنقاض وأصبحت فرندا للمزار بعرض حوالي عشرة أمتار . وقد حدثنا زميلنا السيد فهد الحلح أنه شهد في منتصف السبعينات من القرن الماضي تعميد أحد الأطفال من آل أبو جمرة من سكان ملح وكان المصلى لا زال واضح المعالم، هذا قبل أن يبنى عليه المبنى الجديد .
المغر في تل دير النصراني
في الجهة الجنوبية من التل هناك عدة مغر و كهوف، بعضها غير عميق وبعضها أكثر عمقا . إحدى هذه المغر واسعة و تحوي أكثر من جزء . في جزئها الأكبر السفلي بقايا لأبواب حلس مرمية على الأرض ومؤكد أنها نقلت من مكان آخر و استخدمت أبوابا لهذه المغارة، وفي الداخل مدخل إلى كهف آخر لا يمتد سوى عدة أمتار، أو هذا ما يظهر منه . ويتضح في هذا الكهف التغير الملفت في درجات الحرارة التي تناسب برطوبتها وحرارتها الثابتة درجة حرارة الكهوف المعروفة . سقف المغارة غير منتظم و مختلف الارتفاعات، وقد تلون بعض مساحاته باللون الأخضر الفوسفوري، قد يكون ذلك بسبب الرطوبة .
أما طبيعة المكان بشكل عام فتشهد وجود الرياح العاتية و الغبار، ويستمر هذا الأمر على فترات طويلة معظم أشهر السنة.
المراجع
(1)Howard C. Butler , Ancient Architecture in Syria , Southern Syria , part V , pp 334 – 335
(2) قتيبة الشهابي ، معجم المواقع الأثرية في سوريا , ص 136
(3) ماسكل ، جوزيف ، جبل الدروز ، ص 108
الجدار الغربي للدير من الجنوب " 4 نيسان 2008 "
الجدار الغربي من الشمال ( يلاحظ أساسات البرج مبنية بأحجار مختلفة )
الدير من جهة الشرق ( المبنى الجديد – مزار الخضر )