تلك الهشاشة لا تسمو لمقام الهديّة,
وهذا القلب نمرود مخاتل,
وأنا المخاتل إن قلت:
قلبي لكِ.
مع يقيني أنه لن يسرج طويلا,
حبيبتي...
اتركي هذا الرهان.
تلك الهشاشة لا تهدى لحبيب,
فتشي عن نيزك لم يهوِ بعدُ,
وأنتِ ما زلتِ ذروة النصل,
و( إيزيس )العطاء,
كانت هيفاء تهذر بقصيدته تلك, وهي تعدُّ الصدمات الكهربائية السبع, وتبتهل لإنعاش القلب, والقلب نائمٌ, تدير للطبيب وللحبيب ظهرها, كي تتفادى رؤية ما تفعله الصدمة الشرسة بالجسم الطويل النحيل, ومع ذلك, ومن خلال غبش عينيها, طلبت بنزقٍ:
- دكتور أرجوك... صدمة أخرى... أرجوك.
وعلى الرغم من ثقة الطبيب بعبثية طلبها, فقد خالف قناعاته, وبلا مبالاة نفذ صدمة أخرى, حصلت المعجزة, واستفاق الساكن في صدره, نبض بوهنٍ بعد موت دام دهراً, وصارت هيفاء تقفز مع تعرجات خطوط شاشة جهاز المراقبة وتردد:
- تجنيت عليه يا سعيد, رميته بالهشاشة وأنت الهش... ها هو قلبك يعمل, لأنه أصلب منك. كثيراً ما تجتاح أنوفنا رائحة العفونة, لكن ضوع الحدائق يظلُّ أكبر.
فاز الرهان على القلب, لكن الدماغ قد حَرُنَ, واستفاق الحبيب, لكن دون ذاكرة, جرحتها الخيبة, عندما مرّ بها سعيد اليوم مرور حائط بجانب سيّارة, ثم بدأ الأمل يتهاوى تحت ضربات خطواته البلهاء, وبدأ خراب الذاكرة يفتك بنواميس العيش لديها. لكن ربّما كان سعيدٌ سعيداً بذاك الخراب, وربّما أزاح هذا الطمس عن كاهله الواعي الكثير من ذكريات النحس, بينما كانت هي نهباً لمشاعر متضاربة, تفقد الأمل وتستسلم لدموع اليأس, وتهب النار في كبدها, تطلُّ من النافذة, تتوهم أن سعيداً يقف في العتمة متعبّداً في محرابها, لكن لا أحد هناك, إلاّ الظلام الفاجر يكشّر بوجهها, تعود إلى فراشها دون قبلة مرسلةٍ لها على متن الريح, ولا رنين صوت سعيد وهو يقرأ لها قصائده بتهجُّد العُبّاد, توشوش الريح أغصان شجيرات الدار وتصفُر, تتوهمها شيفرة سعيد, تدفع بصدرها خارج النافذة ثانيةً, فيلفح الهواء البارد وجهها بالخيبة, تعود وهي تجلد نفسها: " مجنونة أنا... سعيد بلا ذاكرة... ومن يفقد الذاكرة يفقد أي هدف "
أكلت صحوتُها ما تبقّى من فتات الليل, وداهمها الصبح وهي تتوكأ على جدران الممر, تنوي تكليف أخيها وهو صديق حميم لسعيد, أن يذهب إليه آملة بأن يبشّرها بعودة ذاكرته, فوجئت بوالد سعيد يدخل باب دارها, استقبلته بلهفة, سألت وسألت, ولم يرد أبو سعيد على أي من أسئلتها, بل بادرها ودون مقدّمات:
- تعالي يا بنتي إلينا... أنتِ وعطرِكِ... لعلّ... لعلّ.
لبّت هيفاء وكأنها تسير فوق الريح, يغلّفها هاجس توقّف القلب ثانية, إن هي رفضت النداء, التقته, فوجئت بعينين دون بريق, ونظراتٍ واهنةٍ, ورأت فيه رجلاً عائداً من الموت, عندها عجزت عن النطق, وهو يسدد إليها نظراته, لكن بنصف إغماضة, يجفل بعد هنيهة وتجحظ عيناه, يشهق, يبتسم, يشدّها إليه بعفويّةٍ, يضمها متوهماً أنهما في خلوةٍ, تستجيب لذراعيه, تبكي على صدره, يفيق كمن يخرج من كابوسٍ, ويعود إلى عينيه بريق العاشق المعنّى, وإلى صوته ذاك التهدج الحنون لقارئ الشعر المتيّم, إحساسه بعودة الذاكرة جعله يتمعّن بمن حوله, ينكسر عندما يكتشف أنهما ليسا وحيدين, عادت الذاكرة وعاد معها ذاك الحزن المديد, وذكريات خروجه من هناك, من قفصٍ كان تحت الأرض, ذكرياتٌ مفعمةٌ بالندم وبتبكيت الضمير, أطرق خجلاً وابتعد عنها, ثمّ تهالك فوق أقرب مقعد إليه, احتضن رأسه بين راحتيه, كانت هيفاء تقرؤه كما تقرأ في كتاب مفتوح, وترشُّ فوقه تبريراً قد يخفف من جَلْدِهِ لذاته "لو كان ما تعرّضت له قد وقع على جبلٍ لانهار واعترف " يحدوها أملٌ بأن تتمكّن من مساعدته على التجذّر مرةً أخرى, ربتت على كتفه وقالت قبل أن تخرج:
- سعيد... الشباب بانتظارك... السهرة عند أخي محمود.
وبعد بضع ساعاتٍ, تناهت إلى مسامعها نغمات العود, وصوت سعيد يصدح بأغنية تنفلت من نوافذ غرفة أخيها:
- ( يا بلح زغلولي, صوت الحبايب, عنّك وصفولي, والبلح عالي يا ولد, والطلب غالي يا ولد, طالع عا بالي ذوق البلح )
كان سماعهُا لنثيث صوت سعيد ينقلها إلى عوالم أخرى, مزهوّة بلذّة الانتصار, غناءٌ كان يقرّبها من اليقين بعودة سعيد لاستطابة الحياة, والحنين لتذوّق البلح, تجاهلت الجدران التي كانت تفصلهما عن بعض, وخاطبت الحبيب بعفوية:
- لازم تعيش يا سعيد... وتذوق طعم البلح...
تناولت دفترها الذي كان يحوي قصائده والورود المحفوظة في ثناياها, تفقدتها وردةً وردة, وشمّت رائحته من خلالها, تصفّحت قصائده, فشمّت منها رائحة أخرى, رائحة التوق إلى الانعتاق, وقد صار فيلسوفاً يفنّد وهم الحياة, تملّكها اليأس, لأن من يغنّي للحياة بتلك العذوبة الآن, ليس (سعيد) الذي كتب تلك القصيدة, بدأت تقرأها بصوت عالٍ, ربّما كي تسمعَ لواعج الروح:
حبيبتي,
خاسر هذا الرهان,
بصدرك تموج سجايا البحار,
وإباء الخيل,
ونُبلُ حبّةِ القمحِ,
وأنا أحمل صفاتِ الرجيمِ,
وأستحقّ اللعنتين:
لعنةً,
حين صرخت بعد ولادتي,
خاضعاً للصفعة الأُولى
والرأس منكّس,
ولعنةً,
حين خان هذا البدن شرف الصرخة " لا "
يوم توهّمتُ النهوض,
مع أنني كنت أركع.
حبيبتي أوّاه....
أوّاه من هذا التواطؤ بين ثالوث لعين:
آمر القلعة,
وآمر هذا الرأس,
و هذا اللسان.
كلهم كانوا وما زالوا,
يقاتلون واهناً,
جعل من النبض ديدنه,
ومن الخوف عصيراً أحمراً,
يجوب أنحائي,
وبالنفايات مفعماً.
أرجوكَ أيّها الخافق توقّفْ,
توقّفْ,
علّني إن عدتُ ثانيةً,
ربّما... ربّما...
سأكون أصلب.
أغلقت هيفاء دفترها, وتركت بضع دمعاتٍ ترسم دوائرها حول نزف القصيدة, نامت قليلاً, أفاقت والذعر يلفّها, عندما سمعت ضجيجاً يغلّف الحي قبل بزوغ الفجر, وسرعان ما وجدت نفسها ترجو الطبيب أن يطبق على صدر سعيد بصدمة كهربائية ثامنةٍ, مع قناعتها بأن ما في صدر سعيد, ربّما قد استجاب لنداء القصيدة.
_________________________________
القريّا في 10/11/2010